سورة النور - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم، فقال: {وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله، وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان، لا عن اعتقاد صحيح، ولهذا قال: {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} أي: من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة {مِن بَعْدِ ذلك} أي: من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان، والطاعة، ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان، فقال: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} أي: ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة، فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين، ويندرج تحتهم من تولى اندراجاً أوّلياً. وقيل: إن الإشارة بقوله: {أولئك} راجع إلى من تولى، والأوّل أولى. والكلام مشتمل على حكمين: الحكم الأوّل: على بعضهم بالتولي، والحكم الثاني: على جميعهم بعدم الإيمان. وقيل: أراد بمن تولى: من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد بذلك رؤساء المنافقين، وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها وورودها على سبب خاص، كما سيأتي بيانه.
ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقاً منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله، وإلى رسوله في خصوماتهم، فقال: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي: ليحكم الرسول بينهم، فالضمير راجع إليه؛ لأنه المباشر للحكم، وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه، ومثل ذلك قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. و{إذا} في قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} هي الفجائية أي: فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول، ثم ذكر سبحانه: أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحقّ عليهم، وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلاّ بالحق فقال: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة، يقال: أذعن لي بحقي أي: طاوعني لما كنت ألتمس منه، وصار يسرع إليه، وبه قال مجاهد.
وقال الأخفش، وابن الأعرابي: مذعنين مقرّين.
وقال النقاش: مذعنين: خاضعين.
ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ}، وهذه الهمزة للتوبيخ، والتقريع لهم، والمرض النفاق أي: أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم {أَمِ ارتابوا}، وشكوا في أمر نبوّته صلى الله عليه وسلم، وعدله في الحكم {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}، والحيف: الميل في الحكم؛ يقال: حاف في قضيته أي: جار فيما حكم به، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدّرها بالاستفهام الإنكاري، فقال: {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} أي: ليس ذلك لشيء مما ذكر، بل لظلمهم، وعنادهم؛ فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب، والسنة، العادلين في القضاء.
هو: حكم بحكم الله، وحكم رسوله، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله، وإلى رسوله أي: إلى حكمهما. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذمّ، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الآية. انتهى. فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب، والسنة، ولا يعقل حجج الله، ومعاني كلامه، وكلام رسوله، بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً، وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلاً مركباً، وهو: من لا علم عنده بما ذكرنا، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم، فاعتقاده باطل؛ فمن كان من القضاة هكذا، فلا تجب الإجابة إليه؛ لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه، بل هو من قضاة الطاغوت، وحكام الباطل، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب، والسنة، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده. وإذا تقرّر لديك هذا، وفهمته حق فهمه علمت: أن التقليد، والإنتساب إلى عالم من العلماء دون غيره، والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة، والفواقر الموحشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه: القول المفيد في حكم التقليد وفي مؤلفنا الذي سميناه: أدب الطلب ومنتهى الأرب فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية، فليرجع إليهما.
ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله، ورسوله، فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قرأ الجمهور بنصب: {قول} على أنه خبر كان واسمها {أن يقولوا}.
وقرأ عليّ والحسن وابن أبي إسحاق برفع: {قول} على أنه الاسم، وأن المصدرية، وما في حيزها الخبر، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرّر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان، وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسماً. وأما سيبويه فقد خير بين كلّ معرفتين، ولم يفرق هذه التفرقة، وقد قدّمنا الكلام على الدعوة إلى الله، ورسوله للحكم بين المتخاصمين، وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة، ومن لا تجب {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: أن يقولوا هذا القول لا قولاً آخر، وهذا، وإن كان على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر. والمعنى: أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة، والإذعان. قال مقاتل، وغيره: يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه، ويضرّهم، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: {أولئك} أي: المؤمنون الذين قالوا هذا القول: {هُمُ المفلحون} أي: الفائزون بخير الدنيا والآخرة.
ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفائزون} وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من حسن حال المؤمنين، وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم، والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله، والخشية من الله عزّ وجلّ، والتقوى له. قرأ حفص {ويتقه} بإسكان القاف على نية الجزم. وقرأ الباقون بكسرها، لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون. قال ابن الأنباري: وقراءة حفص هي على لغة من قال: لم أر زيداً، ولم أشتر طعاماً، يسقطون الياء للجزم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر:
قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً ***
وقول الآخر:
عجبت لمولود وليس له أب *** وذي ولد لم يلده أبوان
وأصله يلد بكسر اللام، وسكون الدال للجزم، فلما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأوّل لرجع إلى ما وقع الفرار منه، فحرك ثانيهما، وهو: الدال. ويمكن أن يقال: إنه حرك الأوّل على أصل التقاء الساكنين، وبقي السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة، ولا يضرّ الرجوع إلى ما وقع الفرار منه، فهذه الحركة غير تلك الحركة، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة، والخشية، والتقوى أي: هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والأخروي لا من عداهم.
ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا، فقال: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، و{جهد أيمانهم} منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له أي: أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهداً.
ومعنى {جَهْدَ أيمانهم}: طاقة ما قدروا أن يحلفوا، مأخوذ من قولهم: جهد نفسه: إذا بلغ طاقتها، وأقصى وسعها. وقيل: هو منتصب على الحال والتقدير: مجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك، وطاقتك، وقد خلط الزمخشري الوجهين، فجعلهما واحداً. وجواب القسم قوله: {لَيُخْرِجَنَّ} ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة، وأيمانهم فاجرة ردّ الله عليهم، فقال: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} أي: ردّ عليهم زاجراً لهم، وقل لهم: لا تقسموا أي: لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة، والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به، وهاهنا تمّ الكلام. ثم ابتدأ، فقال: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ}، وارتفاع طاعة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد، ويجوز أن تكون طاعة مبتدأ، لأنها قد خصصت بالصفة، ويكون الخبر مقدّراً أي: طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم، ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف أي: لتكن منكم طاعة، أو لتوجد، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلاّ إذا تقدّم ما يشعر به. وقرأ زيد بن عليّ، والترمذي {طاعة} بالنصب على المصدر لفعل محذوف أي: أطيعوا طاعة {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال، وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم، وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق.
ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله، فقال: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} طاعة ظاهرة، وباطنة بخلوص اعتقاد، وصحة نية، وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} في حكم الأمر بالطاعة، وقيل: إنهما مختلفان، فالأوّل نهي بطريق الردّ، والتوبيخ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم، والإيجاب عليهم {فَإِن تَوَلَّوْاْ} خطاب للمأمورين، وأصله: فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم، والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة، والانقياد، وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} أي: فاعلموا أنما على النبي صلى الله عليه وسلم ما حمل مما أمر به من التبليغ، وقد فعل، وعليكم ما حملتم أي: ما أمرتم به من الطاعة، وهو وعيد لهم، كأنه قال لهم: فإن توليتم، فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل {وَإِن تُطِيعُوهُ} فيما أمركم به، ونهاكم عنه {تَهْتَدُواْ} إلى الحق، وترشدوا إلى الخير، وتفوزوا بالأجر، وجملة: {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} مقرّرة لما قبلها، واللام إما للعهد، فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وإما للجنس، فيراد كل رسول، والبلاغ المبين: التبليغ الواضح، أو الموضح.
قيل: يجوز أن يكون قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} ماضياً، وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأوّل أرجح. ويؤيده الخطاب في قوله: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ}، وفي قوله: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}، ويؤيده أيضاً قراءة البزي {فإن تولوا} بتشديد التاء، وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين.
{وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل: هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله، فقد أطاع الله ورسوله، واللام في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض} جواب لقسم محذوف، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم، لأنه ناجز لا محالة، ومعنى {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض}: ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال: إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر قوله: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} كل من استخلفه الله في أرضه، فلا يخصّ ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها. قرأ الجمهور {كَمَا استخلف} بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر، وأبو بكر، والمفضل، عن عاصم بضمها على البناء للمفعول، ومحل الكاف النصب على المصدرية أي: استخلافاً كما استخلف، وجملة {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا: التثبيت، والتقرير أي: يجعله الله ثابتاً مقرّراً، ويوسع لهم في البلاد، ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا: الإسلام، كما في قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3]. ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أوّلاً، وهو جعلهم ملوكاً، وذكر التمكين ثانياً، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض، والطروّ، بل على وجه الاستقرار والثبات، بحيث يكون الملك لهم، ولعقبهم من بعدهم.
وجملة {وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} معطوفة على التي قبلها. قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر: {ليبدلنهم} بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختارها أبو حاتم.
وقرأ الباقون بالتشديد من بدّل، واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى، فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقاً، وأنه يقال: بدّلته أي: غيرته، وأبدلته: أزلته، وجعلت غيره. قال النحاس، وهذا القول صحيح. والمعنى: أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلاّ الله سبحانه، ولا يرجون غيره.
وقد كان المسلمون قبل الهجرة، وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلاّ في السلاح، ولا يمسون ويصبحون إلاّ على ترقب لنزول المضرّة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن، والدعة، وأذلّ الله لهم شياطين المشركين، وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض، ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة {يَعْبُدُونَنِي} في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني أي: يعبدونني، غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء، وقيل: معناه لا يراؤون بعبادتي أحداً، وقيل: معناه لا يخافون غيري، وقيل: معناه لا يحبون غيري {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون} أي: من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمرّ على الكفر، أو من كفر بعد إيمان، فأولئك الكافرون، هم الفاسقون؛ أي: الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة، والطغيان في الكفر.
وجملة {وَأَقِيمُواْ الصلاة} معطوفة على مقدّر يدلّ عليه ما تقدّم، كأنه قيل لهم: فآمنوا، واعملوا صالحاً، وأقيموا الصلاة، وقيل: معطوف على {وَأَطِيعُواْ الله}، وقيل التقدير: فلا تكفروا، وأقيموا الصلاة.
وقد تقدّم الكلام على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكرّر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد، وخصه بالطاعة، لأن طاعته طاعة لله، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرّر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه: {لا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض} قرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو حيوة {لا يحسبنّ} بالتحتية بمعنى: لا تحسبنّ الذين كفروا، وقرأ الباقون بالفوقية أي: لا تحسبنّ يا محمد، والموصول المفعول الأوّل، ومعجزين الثاني، لأن الحسبان يتعدّى إلى مفعولين، قاله الزجاج والفرّاء وأبو علي. وأما على القراءة الأولى، فيكون المفعول الأوّل محذوفاً أي: لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم. قال النحاس: وما علمت أحداً بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطّئ قراءة حمزة، و{معجزين} معناه: فائتين.
وقد تقدّم تفسيره، وتفسير ما بعده.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول} الآية قال: أناس من المنافقين أظهروا الإيمان، وهم في ذلك يصدّون عن سبيل الله وطاعته، وجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجوا أيضاً عن الحسن قال: إن الرجل كان يكون بينه، وبين الرجل خصومة، أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محقّ أذعن، وعلم أن النبي سيقضي له بالحقّ، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، وقال: أنطلق إلى فلان، فأنزل الله سبحانه: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {هُمُ الظالمون} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان بينه وبين أخيه شيء، فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين، فلم يجب، فهو ظالم لا حقّ له» قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه: وهذا حديث غريب، وهو مرسل.
وقال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله: فهو ظالم، فكلام صحيح. وأما قوله: فلا حق له، فلا يصح. ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. انتهى. وأقول: أما كون الحديث مرسلاً، فظاهر. وأما دعوى كونه باطلاً، فمحتاجة إلى برهان، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما ذكرنا، ويبعد كل البعد أن ينفق عليهم ما هو باطل، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبيّ حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا مبارك حدّثنا الحسن فذكره. وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع. ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حقّ له» انتهى. ولا يخفاك أن قضاة العدل، وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدّمنا لك قريباً هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب، والسنة، المبينون للناس ما نزل إليهم.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال: ذلك في شأن الجهاد، قال: يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} قال: أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} يقول: قد عرفت طاعتهم أي: إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا؟ قال: «فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم».
وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلت: يا رسول... فذكر نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سئل: إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ قال: «قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم».
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ} الآية. قال: فينا نزلت، ونحن في خوف شديد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض} إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم.
وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} قال: لا يخافون أحداً غيري.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون}: العاصون.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} قال: سابقين في الأرض.


لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان، فذكره هاهنا على وجه أخصّ، فقال: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} والخطاب للمؤمنين، وتدخل المؤمنات فيه تغليباً كما في غيره من الخطابات. قال العلماء: هذه الآية خاصة ببعض الأوقات.
واختلفوا في المراد بقوله: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} على أقوال: الأوّل: أنها منسوخة، قاله سعيد بن المسيب.
وقال سعيد بن جبير: إن الأمر فيها للندب لا للوجوب. وقيل: كان ذلك واجباً حيث كانوا لا أبواب لهم، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس. وقيل: إن الأمر هاهنا للوجوب، وإن الآية محكمة غير منسوخة، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء. قال القرطبي: وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: إنها خاصة بالنساء.
وقال ابن عمر: هي خاصة بالرجال دون النساء. والمراد بقوله: {مَلَكَتْ أيمانكم}: العبيد، والإماء، والمراد ب {الذين لم يبلغوا الحلم}: الصبيان {منكم} أي: من الأحرار، ومعنى {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ}: ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات، وانتصاب {ثلاث مرات} على الظرفية الزمانية أي: ثلاثة أوقات، ثم فسر تلك الأوقات بقوله: {مّن قَبْلِ صلاة الفجر} إلخ، أو منصوب على المصدرية أي: ثلاث استئذانات؛ ورجح هذا أبو حيان، فقال: والظاهر من قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} ثلاث استئذانات، لأنك إذا قلت: ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات. ويردّ: بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. قرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية الحلم بسكون اللام، وقرأ الباقون بضمها. قال الأخفش: الحلم من حلم الرجل بفتح اللام، ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام.
ثم فسر سبحانه الثلاث المرات، فقال: {مّن قَبْلِ صلاة الفجر}، وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وربما يبيت عرياناً، أو على حال لا يحبّ أن يراه غيره فيها، ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هي من قبل، وقوله: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة} معطوف على محل {مّن قَبْلِ صلاة الفجر}، و{من} في {مّنَ الظهيرة} للبيان، أو بمعنى: في، أو بمعنى: اللام. والمعنى: حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حرّ الظهيرة، وذلك عند انتصاف النهار، فإنهم قد يتجرّدون عن الثياب لأجل القيلولة. ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث، فقال: {وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء}، وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب، والخلوة بالأهل، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل، فقال: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} قرأ الجمهور: {ثلاثُ عورات} برفع ثلاث وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات.
قال ابن عطية: إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل: أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة؛ ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلاً من الأوقات المذكورة أي: من قبل صلاة الفجر إلخ؛ ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل أي: أعني، ونحوه، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هنّ ثلاث. قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود.
وقال الفراء: الرفع أحبّ إليّ، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات.
وقال الكسائي: إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء، والخبر ما بعدها. قال والعورات الساعات التي تكون فيها العورة. قال الزجاج: المعنى: ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وعورات جمع عورة، والعورة في الأصل: الخلل، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهمّ حفظه ويتعين ستره أي: هي ثلاث أوقات يختلّ فيها الستر. وقرأ الأعمش: {عورات} بفتح الواو، وهي لغة هذيل وتميم، فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واواً أو ياء، ومنه:
أخو بيضات رايح متأوّب *** رفيق بمسح المنكبين سبوح
وقوله:
أبو بيضات رايح أو مغتدي *** عجلان ذا زاد وغير مزوّد
و {لكم} متعلق بمحذوف، هو صفة لثلاث عورات أي: كائنة لكم، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي: ليس على المماليك، ولا على الصبيان جناح، أي: إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر، والإطلاع على العورات. ومعنى {بعدهنّ}: بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كلّ اثنين منها، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها. قال أبو البقاء: {بَعْدَهُنَّ} أي: بعد استئذانهم فيهنّ، ثم حذف حرف الجرّ والمجرور فبقي بعد استئذانهم، ثم حذف المصدر، وهو الاستئذان، والضمير المتصل به. وردّ: بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره، بل المعنى: ليس عليكم جناح، ولا عليهم، أي: العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة، وارتفاع {طَوافُونَ} على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم طوّافون عليكم، والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان. قال الفراء: هذا كقولك في الكلام هم خدمكم، وطوّافون عليكم، وأجاز أيضاً نصب طوّافين لأنه نكرة، والمضمر في {عَلَيْكُمْ} معرفة، ولا يجيز البصريون أن تكون حالاً من المضمرين اللذين في عليكم، وفي بعضكم لاختلاف العاملين.
ومعنى {طوّافون عليكم} أي: يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرّة: «إنما هي من الطوّافين عليكم. أو الطوّافات» أي: هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن، ومعنى {بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ}: بعضكم يطوف، أو طائف على بعض، وهذه الجملة بدل مما قبلها، أو مؤكدة لها. والمعنى: أن كلا منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي، والموالي على العبيد، ومنه قول الشاعر:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه *** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
وقرأ ابن أبي عبلة: {طوّافين} بالنصب على الحال كما تقدّم عن الفراء، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان، لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها، والإشارة بقوله: {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز أي: مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كثير العلم بالمعلومات، وكثير الحكمة في أفعاله.
{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم بعد ما بين فيما مرّ حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، فقال: {فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} يعني: الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ}، والكاف نعت مصدر محذوف أي: استئذاناً كما استأذن الذين من قبلهم، والموصول عبارة عن الذين قيل لهم: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] الآية. والمعنى: أن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنون في جميع الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء، ثم كرّر ما تقدّم للتأكيد، فقال: {كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقرأ الحسن {الحلم}، فحذف الضمة لثقلها. قال عطاء: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحراراً كانوا أو عبيداً.
وقال الزهري: يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية، والمراد بالقواعد من النساء: العجائز اللاتي قعدن عن الحيض، والولد من الكبر، واحدتها قاعد بلا هاء ليدلّ حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل ليدلّ بحذف الهاء على أنه حمل حبل، ويقال: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها. قال الزجاج: هن اللاتي قعدن عن التزويج، وهو معنى قوله: {اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} أي: لا يطمعن فيه لكبرهنّ.
وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد، وليس هذا بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد، وفيها مستمتع.
ثم ذكر سبحانه حكم القواعد، فقال: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي: الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه، لا الثياب التي على العورة الخاصة، وإنما جاز لهنّ ذلك لانصراف الأنفس عنهنّ إذ لا رغبة للرجال فيهنّ، فأباح الله سبحانه لهنّ ما لم يبحه لغيرهنّ، ثم استثنى حالة من حالاتهنّ، فقال: {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} أي: غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، والمعنى: من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهنّ، ولا متعرّضات بالتزين لينظر إليهنّ الرجال. والتبرّج: التكشف، والظهور للعيون، ومنه {بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وبروج السماء، ومنه قولهم: سفينة بارجة أي: لا غطاء عليها {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} أي: وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهنّ من وضعها. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس: {أن يضعن من ثيابهن} بزيادة من، وقرأ ابن مسعود: {وأن يعففن} بغير سين {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} كثير السماع والعلم، أو بليغهما.
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة؟ قال بالأوّل جماعة من العلماء، وبالثاني جماعة. قيل: إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمانهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك وقالوا: لا ندخلها، وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم؛ فمعنى الآية: نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم، أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو. قال النحاس: وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية لما فيه من الصحابة، والتابعين من التوقيف. وقيل: إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحاء حذاراً من استقذارهم إياهم، وخوفاً من تأذيهم بأفعالهم، فنزلت. وقيل: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، وقيل: المراد بهذا الحرج المرفوع عن هؤلاء هو الحرج في الغزو أي: لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو. وقيل: كان الرجل إذا أدخل أحداً من هؤلاء الزمنى إلى بيته، فلم يجد فيه شيئاً يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته، فيتحرج الزمنى من ذلك، فنزلت. ومعنى قوله: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ}. عليكم، وعلى من يماثلكم من المؤمنين {أَن تَأْكُلُواْ} أنتم، ومن معكم، وهذا ابتداء كلام أي: ولا عليكم أيها الناس. والحاصل: أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء، أو دخول بيوتهم فيكون {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} متصلاً بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر، وعدم العرج وعدم المرض، فقوله: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} ابتداء كلام غير متصل بما قبله.
ومعنى {مِن بُيُوتِكُمْ}: البيوت التي فيها متاعهم، وأهلهم، فيدخل بيوت الأولاد، كذا قال المفسرون، لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد، وذكر بيوت الآباء، وبيوت الأمهات، ومن بعدهم. قال النحاس: وعارض بعضهم هذا، فقال: هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفاً لهؤلاء. ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد، بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث: «أنت ومالك لأبيك»، وحديث: «ولد الرجل من كسبه»، ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الإخوة والأخوات، بل بيوت الأعمام، والعمات، بل بيوت الأخوال، والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم.
وقال آخرون: لا يشترط الإذن. قيل: وهذا إذا كان الطعام مبذولاً، فإن كان محرزاً دونهم لم يجز لهم أكله. ثم قال سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ} أي: البيوت التي تملكون التصرّف فيها بإذن أربابها، وذلك كالوكلاء، والعبيد، والخزّان، فإنهم يملكون التصرّف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته، وإعطائهم مفاتحه. وقيل: المراد بها بيوت المماليك. قرأ الجمهور {ملكتم} بفتح الميم، وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم، وكسر اللام مع تشديدها. وقرأ أيضاً {مفاتيحه} بياء بين التاء، والحاء. وقرأ قتادة {مفاتحه} على الإفراد، والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي: لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم، وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة، فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك، وتطيب به نفسه، والصديق يطلق على الواحد والجمع، ومنه قول جرير:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** بأسهم أعداء وهنّ صديق
ومثله العدوّ والخليط والقطين والعشير، ثم قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ} من بيوتكم {جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} انتصاب {جميعاً} و{أشتاتاً} على الحال. والأشتات جمع شتّ، والشتّ المصدر بمعنى: التفرّق، يقال: شتّ القوم أي: تفرقوا، وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله أي: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين، أو متفرقين، وقد كان بعض العرب يتحرّج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلاً يؤاكله، فيأكل معه، وبعض العرب كان لا يأكل إلاّ مع ضيف، ومنه قول حاتم:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً} هذا شروع في بيان أدب آخر أدّب به عباده أي: إذا دخلتم بيوتاً غير البيوت التي تقدّم ذكرها {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} أي: على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم. وقيل: المراد البيوت المذكورة سابقاً. وعلى القول الأوّل، فقال الحسن، والنخعي: هي المساجد، والمراد: سلموا على من فيها من صنفكم، فإن لم يكن في المساجد أحد، فقيل: يقول: السلام على رسول الله، وقيل يقول: السلام عليكم مريداً للملائكة، وقيل: يقول: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين.
وقال بالقول الثاني: أعني أنها البيوت المذكورة سابقاً جماعة من الصحابة، والتابعين، وقيل: المراد بالبيوت هنا هي كلّ البيوت المسكونة، وغيرها، فيسلم على أهل المسكونة، وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، وانتصاب {تَحِيَّةً} على المصدرية، لأن قوله: {فَسَلّمُواْ} معناه: فحيوا أي: تحية ثابتة {مِنْ عِندِ الله} أي: إن الله حياكم بها.
وقال الفرّاء: أي: إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له، ثم وصف هذه التحية، فقال: {مباركة} أي كثيرة البركة والخير دائمتهما {طَيّبَةً} أي تطيب بها نفس المستمع، وقيل: حسنة جميلة.
وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب، ثم كرّر سبحانه، فقال: {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} تأكيداً لما سبق.
وقد قدّمنا: أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه، وفهم معانيها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن رجلاً من الأنصار، وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها، وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن، فأنزل الله في ذلك {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} يعني: العبيد والإماء {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} قال: من أحراركم من الرجال والنساء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في هذه الآية قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين، والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلاّ بإذن.
وأخرج ابن مردويه عن ثعلبة القرظي عن عبد الله بن سويد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العورات الثلاث، فقال: «إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم، ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلاّ بإذن، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء، ومن قبل صلاة الصبح».
وأخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب، عن عبد الله بن سويد من قوله.
وأخرج نحوه أيضاً ابن سعد عن سويد بن النعمان.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: إنه لم يؤمن بها أكثر الناس يعني: آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه، لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن عليّ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهنّ: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} والآية التي في سورة النساء {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} [النساء: 8] الآية، والآية التي في الحجرات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13].
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال: إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبيّ، ولا خادم إلاّ بإذنه حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر، فمثل ذلك، ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، وهو قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}، فأما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلاّ بإذن على كل حال، وهو قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ}.
وأخرج أبو داود، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسندٍ صحيح من طريق عكرمة عنه أيضاً: أن رجلاً سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس: إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه، أو ولده، أو يتيم في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب، وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} قال: هي على الذكور دون الإناث، ولا وجه لهذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قالت: نزلت في النساء أن يستأذنّ علينا.
وأخرج الحاكم وصححه عن عليّ في الآية قال: النساء، فإن الرجال يستأذنون.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال: هي في النساء خاصة الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار.
وأخرج الفريابي، عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال: لا.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء: أنه سأل ابن عباس: أأستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري، وإني أنفق عليها، وإنها معي في البيت أأستأذن عليها؟ قال: نعم، إن الله يقول: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} الآية، فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلاّ في هؤلاء العورات الثلاث، قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال: عليكم إذن على أمهاتكم.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب عنه قال: يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، عن جابر نحوه.
وأخرج ابن جرير، والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار: أن رجلاً قال: يا رسول الله أأستأذن على أمي؟ قال: «نعم»، قال: إني معها في البيت، قال: «استأذن عليها»، قال: إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: «أتحبّ أن تراها عريانة؟» قال: لا، قال: «فاستأذن عليها» وهو مرسل.
وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مرسل.
وأخرج أبو داود، والبيهقي في السنن عن ابن عباس: {وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن} [النور: 31] الآية، فنسخ، واستثنى من ذلك {والقواعد مِنَ النساء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} الآية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه قال: هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرّج بما يكرهه الله، وهو قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ}.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، والبيهقي عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: {أَن يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابَهُنَّ} ويقول: هو: الجلباب.
وأخرج سعيد ابن منصور وابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال: تضع الجلباب.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود: {أن يضعن ثيابهنّ} قال: الجلباب، والرداء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] قالت الأنصار: ما بالمدينة مال أعزّ من الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مع الأعمى يقولون: إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرّجون الأكل مع الأعرج يقولون: الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم، ويتحرّجون الأكل مع المريض يقولون: لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرّجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى} يعني: في الأكل مع الأعمى.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم نحوه.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال: كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله، أو بيت خالته، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون: إنه لا يحلّ لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمنى، فأنزل الله: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: لما نزلت: {يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ}، وهو: الرجل يوكل الرجل بضيعته، والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن، وكانوا أيضاً يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا مريض، ولا أعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في مراسيله، وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله: {لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ} ما بال الأعمى، والأعرج، والمريض ذكروا هنا؟ فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله: أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون: لا ندخلها، وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجل يسوق الذود الحفل، وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصة لهم.
وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية، قال: خرج الحارث غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف على أهله خالد بن يزيد، فحرج أن يأكل من طعامه، وكان مجهوداً، فنزلت.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوّله، ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع فسوّغه الله أن يأكله. وقال: ذهب ذلك اليوم البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} يقول: إذا دخلتم بيوتكم، فسلموا على أنفسكم {تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله}، وهو السلام، لأنه اسم الله، وهو: تحية أهل الجنة.
وأخرج البخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخلت على أهلك، فسلم عليهم تحية من عند الله {مباركة طَيّبَةً}.
وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس في قوله: {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} قال: هو المسجد إذا دخلته، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب عن ابن عمر قال: إذا دخل البيت غير المسكون، أو المسجد، فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.


جملة: {إِنَّمَا المؤمنون} مستأنفة مسوقة لتقدير ما تقدّمها من الأحكام، و{إِنَّمَا} من صيغ الحصر. والمعنى: لا يتم إيمان ولا يكمل حتى يكون {بالله وَرَسُولِهِ}، وجملة: {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} معطوفة على آمنوا داخلة معه في حيز الصلة أي: إذا كانوا مع رسول الله على أمر جامع، أي على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجمعة والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك، وسمي الأمر جامعاً مبالغة {لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَأْذِنُوهُ} قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن يشاء منهم. قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة: أن يشير بيده. قال الزجاج: أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه، ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلاّ بإذنه، وللإمام أن يأذن، وله أن لا يأذن على ما يرى لقوله تعالى: {فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ}، وقرأ اليماني: {على أمر جميع}. والحاصل: أن الأمر الجامع، أو الجميع هو الذي يعمّ نفعه، أو ضرره، وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي، والتجارب. قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه، ولا يرجعون عنه إلاّ بإذنه. ثم قال سبحانه: {إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} فبيّن سبحانه أن المستأذنين هم: المؤمنون بالله ورسوله كما حكم أوّلاً بأن المؤمنين الكاملين الإيمان هم: الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي: إذا استأذن المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور التي تهمهم، فإنه يأذن لمن شاء منهم، ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم، وفيه إشارة إلى أن الاستئذان إن كان لعذر مسوّغ، فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي كثير المغفرة والرحمة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.
{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها أي لا تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة، أو الرجوع بغير استئذان، أو رفع الصوت.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد المعنى: قولوا: يا رسول الله في رفق ولين، ولا تقولوا: يا محمد بتجهم.
وقال قتادة: أمرهم أن يشرّفوه، ويفخموه. وقيل: المعنى: لا تتعرّضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه، فإن دعوته موجبة {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} التسلل: الخروج في خفية، يقال: تسلل فلان من بين أصحابه: إذا خرج من بينهم، واللواذ من الملاوذة، وهو: أن تستتر بشيء مخافة من يراك، وأصله أن يلوذ هذا بذاك، وذاك بهذا، واللوذ ما يطيف بالجبل، وقيل: اللواذ: الزوغان من شيء إلى شيء في خفية. وانتصاب لواذاً على الحال أي: متلاوذين يلوذ بعضهم ببعض، وينضمّ إليه، وقيل: هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي: يلوذون لواذاً. وقرأ زيد بن قطيب: {لواذاً} بفتح اللام. وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ينضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة، والخطبة، فكانوا يفرّون عن الحضور، ويتسللون في خفية، ويستتر بعضهم ببعض، وينضم إليه. وقيل: اللواذ: الفرار من الجهاد، وبه قال الحسن، ومنه قول حسان:
وقريش تلوذ منكم لواذا *** لم تحافظ وخفّ منها الحلوم
{فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي: يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك العمل بمقتضاه، وعديّ فعل المخالفة بعن مع كونه متعدّياً بنفسه لتضمينه معنى الإعراض، أو الصدّ، وقيل: الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة، و{أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} مفعول يحذر، وفاعله الموصول. والمعنى: فليحذر المخالفون عن أمر الله، أو أمر رسوله، أو أمرهما جميعاً إصابة فتنة لهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرة كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا، وكلمة {أو} لمنع الخلوّ. قال القرطبي: احتجّ الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية، ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الآية، فيجب امتثال أمره، وتحرم مخالفته، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن، وقيل: هي القتل، وقيل: الزلازل، وقيل: تسلط سلطان جائر عليهم، وقيل: الطبع على قلوبهم. قال أبو عبيدة، والأخفش: {عن} في هذا الموضع زائدة.
وقال الخليل، وسيبويه: ليست بزائدة، بل هي بمعنى بعد، كقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} [الكهف: 50] أي: بعد أمر ربه، والأولى ما ذكرناه من التضمين.
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض} من المخلوقات بأسرها، فهي ملكه {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها، فيجازيكم بحسب ذلك، ويعلم ها هنا بمعنى علم {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} معطوف على ما أنتم عليه أي: يعلم ما أنتم عليه، ويعلم يوم يرجعون إليه، فيجازيكم فيه بما عملتم، وتعليق علمه سبحانه بيوم يرجعون لا بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه، لأن العمل بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي يخبرهم بما عملوا من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر، والظاهر من السياق: أن هذا الوعيد للمنافقين {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء من أعمالهم.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر والبيهقي في الدلائل، عن عروة، ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر بالمدينة، قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه المسلمون، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله} الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال: هي في الجهاد والجمعة والعيدين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: {على أَمْرٍ جَامِعٍ} قال: من طاعة الله عامّ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول} الآية قال: يعني: كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه وقولوا له: يا رسول الله يا نبيّ الله.
وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضاً في الآية قال: لا تصيحوا به من بعيدٍ: يا أبا القاسم، ولكن كما قال الله في الحجرات: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله} [الحجرات: 3].
وأخرج أبو داود في مراسيله، عن مقاتل، قال: كان لا يخرج أحد لرعاف، أو إحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بيده، وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج. فأنزل الله: {الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} الآية.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، والطبراني، قال السيوطي بسندٍ حسن، عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور، وهو جاعل على أصبعيه تحت عينيه يقول: {بكل شيء بصير}.

1 | 2 | 3 | 4